العولمة والفكر اللاهوتي المسيحي
إنّ دخولنا الزمن "العولميّ" لا بدّ له من أن يؤدي بنا الى طرح مشكلة العولمة والفكر اللاهوتي. الحق أن دخولنا العولمة لم يكن مسألة لنا حرية تقريرها. اما ان نفكر في علاقة الفكر اللاهوتي، ولاسيما المسيحي، بهذه الظاهرة وانعكاساتها وتداعياتها عليه فمغامرة قد نستطيع بملء إرادتنا الاحجام عنها، غير ان لا مفر لنا من ولوج بابها اذا أردنا أن يبقى للفكر اللاهوتي كلمة يقولها ودور يقوم به في خضم "الفوضى" العولمية التي لم يعد التفكير اللاهوتي فيها أمراً بديهياً. ما سيرد من أفكار في هذه المساهمة ان هو إلا محاولة "بدئية" في هذا المجال. فهذه المساهمة لا تتوخى الإحاطة بالموضوع المطروح على البحث من كل جوانبه ولا تزعم القدرة على استنفاده. وتالياً فإن الافكار التي تلي تفترض الالمام، الى حد ما، بماهية العولمة وأبرز مظاهرها، وذلك من دون إنكار ما قد يخالط الخروج بتحديد للعولمة من صعوبات منهجية ومعرفية نحن هنا في غنى عن التطرق اليها. هل يحق اللجوء الى هذه "الحيلة" المنهجية، أعني التحدث عن العولمة بوصفها معطى معروفاً من دون تحديدها كظاهرة؟ يزيّن لي أن الجواب يجب ان يكون الايجاب لكون آراء الدارسين تتقاطع، رغم الصعوبات المشار اليها أعلاه، الى حد أدنى بإزاء تحديد ماهية العولمة وأبرز مكوّناتها كظاهرة اقتصادية واجتماعية وثقافية فرضت ذاتها بعد انهيار المعسكر الشيوعيّ في اوروبا.
يضاف الى هذا ان العولمة ليست مفهوما مجرداً، بل واقعاً ملموساً بتنا نحيا في وسطه مختبرين إياه في شكل مستديم ومكوّنين عنه "فهماً" ما يرتكز على خبرتنا. انطلاقاً من هنا، تتجنب هذه المساهمة معارج تحديد العولمة تحديداً دقيقاً محيلة في لائحة المراجع الواردة في الختام الى بعض الكتب المختصة في الموضوع. وتكتفي هذه السطور بالاشارة المسهبة نوعا ما الى نقاط ثلاث تندرج في اطار جدلية العولمة والفكر اللاهوتي، مع التشديد على أن اختيارها لا يلغي وجود سواها ولا يقلل من أهميته وعلى أن هذا الاختيار محكوم، بطبيعة الحال، بما يوليه الكاتب إياها من اهتمام بسبب حسه الفكري وثقافته. ولكن قبل الانتقال الى النقاط الثلاث المشار اليها، أود أن أتوقف قليلا عند ملاحظتين تقعان، اذا جاز التعبير، في خانة القبليات التي يفترضها بحث التحديات التي تطرحها ظاهرة العولمة على الفكر اللاهوتي. اولا: يشير العارفون الى أن ظاهرة العولمة التي نعيش اليوم فيها ليست الأولى من نوعها. فلقد سبقت عولمة عصرنا "عولمات" أخرى، بدءاً بالتوسع التجاري الفينيقيّ في أرجاء المتوسط مروراً بالامبراطورية الرومانية والسيطرة العثمانية على كثير من بقاع المشرق والمغرب وصولا الى ظاهرة الاستعمار الاوروبي الحديث أجزاء واسعة من العالمين القديم والجديد.
علاوة على ذلك، تضرب ظاهرة العولمة جذورها في الحقبة التي سبقتها، أي ما يعرف بالحداثة التي راحت معالمها ترتسم في اوروبا في اوائل القرن السادس عشر. ويذهب بعضهم الى ان التبادل التجاري في ما يتجاوز أطر الدول القومية كان أكثف قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى منه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما يدل على أن الطابع الاقتصاديّ والتجاريّ الذي يطبع عولمة اليوم ليس ظاهرة حديثة كلياً، بل يتأصل في ظواهر تاريخية أقدم. هذا التأصل التاريخي لا ينفي، طبعاً، مظاهر الجدة التي تجعل من عولمة اليوم حقبة جديدة فعلا لا تتماهى وأياً من سابقاتها. والحق ان حتى القديم الكثير الذي قد تضمه العولمة إنما يتخذ اليوم بعداً جديداً، لأن الجدة والقدامة ليستا بنتي المضمون المجرَّد فحسب، بل هما أيضا وليدتا النور الجديد الذي يسلّطه تغير السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية.
فبعض "التاريخي" او "التقليدي" أو "المعروف" يتخذ "حضوراً" جديداً ويصبح مهما وملحّاً بفعل اعادة صوغ السياقات المذكورة وظهوره في تشكلات مختلفة بالنسبة الى الماضي. هذا ينطبق أيضاً على التفكير اللاهوتي. فربّ مضمون لاهوتي تقليدي قد يغدو، بين يوم وآخر، غاية في "الجدة" بمجرد إعادة ظهوره وتموضعه في تشكيل مجتمعي او ثقافي جديد. من هنا، فأن النقاط التي سأوردها قد لا تكون "جديدة" في الضرورة من حيث مضمونها. بيد أنها تكتسي، في رأيي، أهمية كبرى بفعل قيام سياق ثقافي ومجتمعي جديد ندعوه "العولمة". ثانياً: لا ريب في أن السؤال عن موقع الفكر اللاهوتي من ظاهرة العولمة إنما هو أيضاً قائم في سياق مجتمعي - ثقافي لا يمكننا التغاضي عنه. لذا، فإن الفكر اللاهوتي الذي نعنيه لا يمكن ان يكون الا ذاك المتشكل في سياق المشرق العربيّ الذي ننتمي اليه. أن يأتي الفكر اللاهوتي دوماً ابن سياقه فهذا معطى معرفي لا يرقى اليه الشك. والفكر اللاهوتي المشرقيّ لا يسعه ان يطل على الفكر اللاهوتي بعامة ما لم يتأصل اولا في تربته المشرقية ويعي هذا التأصل. ولكن، قبل أن نسأل أين نحن في الشرق من العولمة، لا بد من السؤال: أين نحن في المشرق من الفكر اللاهوتي؟ هل ثمة "فكر" لاهوتي مشرقيّ، أم أننا حيال تمتمات تطمح لتصير فكراً، وما هو المعيار الذي نقيس بموجبه وجود فكر لاهوتي؟ قد يُسعفنا هنا التمييز بين مفهوم ضيق ومفهوم واسع للفكر اللاهوتي، من دون ان يعكس هذا التمييز بالضرورة رأي الكاتب.
فإذا اعتبرنا، بالمعنى الضيق، ان الفكر اللاهوتي يقوم في مساهمات لاهوتية مبدعة تأتي من هنا وهناك ويتشكل بها، فإن هذا الفكر موجود فعلا. غير ان ما يصنع الفكر اللاهوتي، بالمعنى الواسع، ليس مجرد وجود الاسهامات القيمة، بل ايضا حركية حوار وقبول خلاق يبدو أنها تبقى في غالبية الاحيان ناقصة او معدومة بسبب ما بدأ يعتور كنائس المشرق من ذهن مؤسساتي واهتمام بالمظهر. حتى في الشأن التفكيري، على حساب الدسم الفعليّ. يضاف الى هذا ان وجود فكر لاهوتي بات اليوم يشترط وجود مشروع لاهوتي من ضمن الثقافة المشرقية تشترك الكنائس جميعاً في تبنّيه ويكون في حجم سقوط مشروع الحداثة في الشرق. في هذا الصدد، يعتبر الصحافي والروائي اللبناني الياس خوري ان الحرب اللبنانية كانت أنبأت بانهيار مشروع الحداثة العربية. ولا شك في أن الخيبات السياسية التي يمنى بها العالم العربي في فلسطين والعراق وغيرهما ليست غريبة عن سقوط هذا المشروع. لا يمكن اللاهوتيين ان يظلوا معزولين عن كل هذا، أعني عن خيبات الناس اجتماعية كانت ام فكرية ام سياسية.
نحن في زمن العولمة، وراءنا مشروع مجهض لم يتحقق وأمامنا فوضى عولمية لسنا بعد مهيئين لها. الملاحظات الآتية، اذا، تتوخى أن تصبح مساهمة بسيطة في صوغ مشروع لاهوي مشرقي مسكوني الطابع يتلقف الظواهر العولمية ويتصدى لها تمحيصاً وتحليلا ونقداً دالا على كيفية التعامل معها في معترك الواقعين الكنسي والعام. هذا، طبعاً، اذا توافر لدينا الاقتناع بضرورة مشروع كهذا وجدواه.
الذات والآخر لعل واحداً من المعالم الأساسية التي تميز علمنة اليوم نسبة مرتفعة من التأحيد uniformisation في العيش والسلوك تجعل العولمة في أذهاننا تترادف احيانا مع أنماط معينة من المأكل والمشرب والملبس والذوق الفني. ويترافق هذا التأحيد مع إحساس متنام بوحدة العالم الذي نعيش فيه لكوننا نستطيع تسقط أخباره في سرعة تكاد توحي شيئاً من الحضور في أكثر من مكان في آن. ولئن كنا، في غير مجال، لا نزال قاصرين عن سلوك يترجم المواطنية العالمية فعلا، إلا انه لا يسعنا ان ننكر ان بعض الكتل المجتمعية، كالمجموعة الاوروبية مثلا، قطعت شوطاً كبيراً في تجاوز النطاق القوميّ الضيق عبر الغاء الحدود وتوحيد النقد. من البديهي، بإزاء هذا الواقع، ان تتسبب العولمة برد فعل يقول ذاته تمسكاً بالمناطقيّ وتشبثاً به خوفاً من ان يبتلع العولمي الخاص. والحق ان هذا التمسك له ما يبرره. فالى كون التماهي بالهوية المحلية واحدة من الديناميات الاساسية التي تنظم سلوك الانسان وترسم له قنوات التحرك، يحفظ لنا التاريخ ان لعولمات الماضي سجلا حافلا في تدمير الثقافات المحلية وطمس ذاكرتها.
التوتر بين العولمي والخاص هو، في التحليل الاخير، التوتر بين الذات والآخر. ومن واجب الفكر اللاهوتي التذكير بأن هذا التوتر لا يمكن إلغاؤه، بل يجب الابقاء عليه وتوجيهه بحيث لا يتحول الى طاقة يتولد منها الصراع في مفهومه السلبي. بكلمات اخرى، وظيفة الفكر اللاهوتي ان يظهر ان الجمع بين التعدد الثقافي والانتماء الى انسانية واحدة تستلهم قيماً مشتركة او تسعى اليها متحاورة في تأويلها ليس مستحيلا، بل هو ممكن وضروريّ. ووظيفة الفكر اللاهوتي، متعاوناً مع العلوم الانسانية الاخرى، ان يفكك الحاجز التقليدي الذي نميل في العادة الى اقامته بين الذات والآخر مبيناً كيف ان الذات تتشكل بالآخر على نحو مستديم وكيف ان صورة الآخر كثيراً ما تكون انعكاساً لأهواء الذات وأفكارها المسبقة. هل هذه المهمة منوطة بالفكر اللاهوتي وحده؟ كلا بالتأكيد. ومن الصعب إقناع الانسان الذي تشكله العولمة وتطبعه بأن للفكر اللاهوتي في هذا المجال امتيازاً عن العلوم الاخرى التي تُعنى بالانسان. غير ان الفكر اللاهوتي المسيحي مؤهل، في اعتقادي، للاضطلاع بهذا الدور او للمساهمة فيه اذا استهلم مصادره، ولاسيما عقيدتي التجسد والكنيسة. في ما يلي، محاولة لتوضيح ذلك. الكلام على التجسد في التراث المسيحي لا يختزله ما ورد في بدء إنجيل يوحنا ان "الكلمة صار جسداً" (يو ،1 14). فالفكر المسيحي اللاحق، وخصوصاً بين القرنين الرابع والثامن الميلاديين، ألفى ذاته مضطراً الى التفكير مليا في علاقة الانساني بالالهيّ في شخص يسوع المسيح الواحد.
وتتفق الكنائس، تلك المعتنقة صيغة مجمع خلقيدونية (451)، أي العائلات الارثوذكسية والكاثوليكية والبروتستنتية، وتلك المتحفظة بازاءه، أي العائلة الارثوذكسية الشرقية من سريان وأقباط وأرمن، على أن وصف علاقة الالهي بالانساني لدى الناصري يتم، في الدرجة الاولى، عبر استخدام تعابير تتريهية سلبية الطابع مثل "بلا انفصال"، "بلا امتزاج"، بلا "تشوّش". هذا الاستخدام يعكس، بلا ريب، رغبة في الامتناع عن دخول حيز التنظير الايجابي في كيفية تلاقي الله بالانسان المحقق في يسوع لكونه، في آخر المطاف، سراً من أسرار الله. ما يهمنا هنا هو ان هذه المقاربة تدل على أن التجسد، كما يؤمن به المسيحيون، هو نموذج جمع بين قطبين، هما الالهي والانساني، مختلفين جذرياً على المستوى الانطولوجي. بيد ان هذا الاختلاف لا يمنع اجتماعهما في توتر خلاق قد يتحول صراعاً حقيقيا كما في معاناة يسوع على جبل الزيتون قبل موته. بيد اننا هنا امام صراع ايجابي، بمعنى انه لا يفضي الى تمزق كيان المسيح المؤلف من حقيقتين الهية وانسانية، بل الى اختيار الانساني بملء ارادته ان يطيع الالهيّ: "لتكن مشيئتك، لا مشيئتي" (مر ،14 36). اما الكنيسة في مفهومها اللاهوتي فهي نموذج توازن بين الواحد والكثرة، بين الشخص المعمّد أياً كان والجماعة التي تتألف الكنيسة المحلية منها.
هذا المفهوم يستند في شكل أساسي الى تعليم الرسول بولس عن الكنيسة بوصفها جسد المسيح المؤلف من أعضاء عدة لكل واحد منهم مكانته وفرادته ووظيفته بحيث لا يمكن أحداً ان يقوم مكانه. واللافت ان بولس يشدد عبر استعماله هذه الصورة على ان علاقة الواحد بالكثرة والكثيرة بالواحد ذات طابع ايجابي، بمعنى انها تكاملية لا تنافسية، لكون المواهب الممنوحة للاعضاء في معموديتهم تساهم في بنيان الجماعة بوصفها جسداً واحداً، والكيان الكنسيّ المتعدد يتجاوز الفرد من دون أن يذيبه في بوتقة المجموع. هذا يتقاطع وتعريف الكنيسة لدى مكسيموس المعترف، أحد ألمع آباء الكنيسة الشرقية، إذ هي في منظوره توحد المختلفين في الشكل والجنس والعرق واللغة والعادات والعمر والرأي بفضل الولادة الجديدة المعطاة في المعمودية، وذلك من دون أن تلغي الاختلافات. هذا الكلام لا يعني، طبعاً، أن الممارسة المسيحية عبر التاريخ كانت دوماً تجسدية وكنسية في المعنى المذكور آنفاً. فالثابت ان المسيحية كثيراً ما سقطت في تغليب الإلهي على البشري او البشري على الإلهي او وقعت ضحية التشديد على الجماعة على حساب الشخص الواحد او العكس. والحق ان من واجب الفكر اللاهوتي ان يسائل المسيحية في التاريخ والحاضر عن مدى إخلاصها لهذه الرؤية الاولى التي تجعل من التجسّد والكنيسة نموذجي توازن بين مختلفات وتمجّ كل استقطاب للواحد على حساب الآخر.
انطلاقاً من هنا، فإن في مقدور الفكر اللاهوتي أن يستنبط من جذوره التجسدية والكنسية نماذج تخاطب العولمة مُظهرة كم أن جدلية الذات والآخر، اذا ما فُهمت ومورست على أنها وحدة في التعدّد والاختلاف، قادرة على أن تكون مثمرة في سبيل تحقيق عالم علمويّ أكثر انسانية.
التقليد والحداثة لئن كان الطابع الاقتصادي او التقني مسيطراً على عولمة اليوم، الاّ أنه من غير المسموح إنكار بعدها الثقافي. والحق أن هذا البعد لا يمكن اختزاله بهيمنة اللغة الانكليزية او بانتشار الطريقة الاميركية في العيش والمأكل والمشرب. فما يسبّبه تسرّب العناصر العولمية الى المجتمعات التقليدية من ردات فعل انطلاقاً مما تحمله هذه المجتمعات من إرث ثقافي، لا يقل أهمية عن "مضمون" العناصر المتسربة. ولعل احدى أبرز الاشكاليات التي تطرحها العولمة في وجهها الثقافي هي السؤال عن العلاقة بين الحديث والتقليدي، وتالياً مشكلة اعادة قراءة التراث وكيفية هذه القراءة. ونلمح في هذا الصدد موقفين أقصيين يندرج بينهما عدد من ردود الفعل يقترب كل منها من أحد الموقفين بمقدار ابتعاده عن الآخر: الموقف الاول هو ذاك الذي ينكمش متمسكاً بالتراث الى حد المغالاة والتشبّث حتى بما هو سطحي لكون هذا السطحي يصبح، بامتياز، رمز الثقافة المعرّضة للتهديد من العناصر العولمية.
واذا أقبل اصحاب هذا الموقف على منتج العولمة فإنما هم يقبلون على اتخاذ بعض وسائلها التقنية بغية نشر مضمون متشدّد سالفيّ. ولعل شيئاً من هذا قصده عبدالله ابرهيم بقوله إن العولمة تنتج في المجتمعات التي هضمت الحداثة معرفة جديدة، أما في المجتمعات التقليدية فهي تنتج ثقافة تقليدية بطرائق جديدة. الموقف الثاني هو الذي يرفض التقليدي والتراثي رفضاً مطلقاً باسم السلع الجديدة التي تروّجها العولمة، متجاهلاً أن تأثير المعطى التراثي، ولا سيما في جانبه الذي يتجاوز الوعي، أعمق بأشواط مما يمكن تهميشه او الغاؤه بمجرد قرار فردي او جماعي. كيف السبيل الى حل هذه المعضلة؟ مهمة الفكر اللاهوتي ان يطرح نهجاً جديداً في التعامل مع التراث; نهجاً يخرجنا من الانفصام القائم في اتخاذنا الوسائل التقنية العولمية وولائنا، في الوقت عينه، لبنىً سلطوية تقليدية ذات طابع ميثيّ (نسبة الى ميثة myth)، إن في المجتمع او الاخلاق او الدين، تنتمي الى ما قبل عقل الحداثة، هذه الحداثة التي انبثقت العولمة منها. هذا يعني أنه لا يسعنا فصل العولمة عن العقل الحديث الذي أنتجها وأن أي تعامل جدّي معها مدعو الى الإقبال على هذا العقل في كل طاقاته وأبعاده.
طبعاً، مقاربة كهذه لا تستتبع بالضرورة إضفاء صفة الاطلاق والعصمة على هذا العقل، بل الاستفادة من طاقات التجدّد الايجابية التي يختزنها بوصفه قادراً على فضح الاخطاء، كل الاخطاء، حتى تلك التي يقع فيها هو ذاته. ولكن هذه المقاربة تفترض بالضرورة عدم رسم حدود مسبقة لهذا العقل، وكأن هناك نطاقات لا يُسمح له بولوجها او بوضعها تحت مجهر التمحيص والمساءلة. المطلوب اذاً، في التحليل الاخير، نهج يمكّننا من التعامل الخلاّق مع التراث من دون أن نصير عبيداً له. والطبيعي أن هذا يستتبع قراءات جديدة تستلهم هذا التراث وتتعلّم منه من دون أن تضفي على مضامينه وتعابيره، مسبقاً، صفة الاطلاق والقداسة، بل أن تتعامل معها بروحية النقد والاخلاص لروح الله الذي يجدّد الكنيسة والمجتمع.
أنسنة العولمة الملاحظات التي سبقت تفترض أن العولمة باتت ظاهرة لا يمكن تفاديها، وهذا ما لا يستطيع أحد التشكيك فيه. بيد أنها ليست، من جهة اخرى، ظاهرة شيطانية بالضرورة ينبغي الحكم عليها، بل هي تختزن، على حدّ سواء، إمكان تدمير الانسان وطاقة الرفع من شأنه. المطلوب، اذاً، ان يجاهد الفكر اللاهوتي في سبيل أن تأتي ثقافة العولمة انسانية او ان تتأنسن، اذا لم تصبح بعد كذلك. ثقافة العولمة قد تنتهي الى صيرورتها ثقافة كاذبة، لأن كل ثقافة كاذبة ما لم تكن في خدمة الانسان، اي في خدمة صون حريته والمحافظة على كرامته والدفاع عنه حيال كل ما يهدّد كينونته الانسانية. سبيل الفكر اللاهوتي أن يتحدى سذاجة العولمة في كل مرة تسوّغ لها نفسها أن تجعل من البشر، أجنّة كانوا أم أطفالاً أم بالغين، سلعة اقتصادية او رقماً في حساب مالي او مادة للقنابل الكيميائية. ووظيفة الفكر اللاهوتي أن يتصدى لعولمة تبارك الطغيان والتسلّط ودكّ البشر أفواجاً في غياهب السجون. وواجب الفكر اللاهوتي أن يفضح عولمة تدمّر الارض، خليقة الله الجميلة، باسم التقدم والتحديث وغلبة الرأسمال ومنطق السوق.
ويزيّن لي أن امام اللاهوت المشرقي بعد أشواطاً يقطعها في هذا المضمار. قد يقول قائل: هذا كاتب يريد أن يلبس اللاهوت لباس قيم الغرب وشرعة حقوق الانسان التي استنبطها. إن رأياً كهذا يتعامى عن أن الغرب اليوم هو ايضاً على محك اختبار صدقيته في ما يختص بهذه الشرعة. بيد أن الكلمات والتصنيفات في ذاتها ليست مهمة، بل ما نرمي اليه من ورائها. لقد كان الإله المتجسد، اذا جاز التعبير، أعظم مدافع عن "حقوق" الانسان لكونه تبنّى الوجود الانساني ككل غير مفرط بذرّة منه، بل حامياً كل طاقة انسانية وموجهاً اياها في سبيل الشركة مع الله. لا مجال اذاً للمفاضلة بين الإلهي والانساني او لتهميش الانساني وقمعه تحت شعار المحافظة على حقوق الله او الأمة او الدولة. فسرّ التجسد لا يترك أي مجال لذلك. بلى، في مقدور الفكر اللاهوتي ان ينتقد ويفضح ويتحدى ويصحّح، اذا آمن حاملوه جدياً بأن الإله الذي يعبدونه سيد التاريخ والمستقبل وأن له، بوصفه ضابطاً للكل ومن دون المسّ بحرية الانسان، الكلمة الاخيرة في تحديد
مسار الازمنة، معولمة كانت أم لا.